مدونـة رئيــس الملائكــة روفائيـــل



بسم الآب والابن والروح القدس اله واحد امين : مدونة رئيس الملائكة روفائيل ترحب بكم : افرحوا فى الرب كل حين واقول ايضا افرحوا
Home » » اعترافات القديس اغسطينوس ـــ الكتاب الرابع .

اعترافات القديس اغسطينوس ـــ الكتاب الرابع .



الكتاب الرابع

========


حياة أوغسطينوس من التاسعة عشرة حتى الثامنة و العشرين .
إغواءه الناس لاعتناق مذهب المانويين .
انقياده انقياداً جزئياً للزهو و حب الأثم .
استشـــــــــــارته للعرافين .
فقده صديقاً قديماً و رثاءه له .
تأملات في الأحزان و الصداقة الحقة و غير الحقة و سعيه وراء الشهرة.
أقوال عن ( الحسن و المناسب ) و هو كتاب ألفه القديس .
قبوله بعض التصورات الخاطئة عن الله .
-1-
إغواء الناس لاعتناق مذهب المانويين
 لقد قضيت السنوات التسع التالية من عمري - ما بين التاسعة عشرة و الثامنة
و العشرين - ضالاً و مضلاً ، خادعاً و مخدوعاً في شهوات مختلفة كنا ندعوها علانية باسم ( العلوم الحرة ) ، و سراً ندعوها باسم ديني مزيف …
    لقد كنت في ذلك الوقت متكبراً و منساقاً وراء الخرافات ، مفتخراً و مزهواً بنفسي في كل مكان ساعياً وراء المديح العام عن طريق الفوز بجوائز الشعر و المناظرات لأحصل علي أكاليل الزهر الخضراء ، و حماقات المناظر الباطلة و فجور الشهوات .
و لما كنت أريد أن أتطهر من هذه النجاسات فقد كنت أحمل الطعام لأولئك الذين كنا  ( مختارين) و ( قديسين ) حتى إذا تناولوا تلك الأطعمة تحولت إلي ملائكة و آلهة قد نتطهر بها ، و هكذا اقتفيت أثر هذه البدعة و مارستها مع أصدقائي المخدوعين بواسطتي و المخدوعين معي بها .
ليتك كنت يا رب قد سمحت لأولئك المتكبرين أن يهـــــزأوا بي ،
                  و لكنهـــــم لأجـــــل فائدتهــــم لم يهـــــــزأوا !!
ليتك قد تركتهم يهزأون بي أنا المضروب و المذلول منك يا إلهي ،
                  فإنني مازلـــــت اعــــترف أمامـــك بفضيحــتي ،

و أتوســل إليـــك ، أن تحتمـــــلني ،
و أن تهبني نعمة لأعبر عما بخاطري  
من ضـــــلالات ذلك الــزمن الماضي ،
و  أقـــدم ذبيحـــة الشـــكر لــــــــك ،
لأن نفســــــــي بــــــــــــــــــــدونك ،
لم تكن تحمل سوي دليل سقوطها ،

إنني الآن أمامك و بالجهد
لســــــــت إلا طفـــــــــلاً يمتص اللبن الذي أعطيته إياه ،
و يقتـــــات بك أيهـــــــــــا الطعـــام الــــذي لا يفنـــــــي .

إن أي رجل منا مهما كان الجنس البشري الذي ينتسب إليه  ،
ليس إلا رجــلاً ضعيفــاً يضحـــــك منـــه الأقويـــاء و المقتدرون ،
و أما نحن المساكين فدعنا نعترف بإثمنا لك .
-2-
انقياده انقياداً جزئياً للزهو و حب الأثم
  في تلك السنين كنت أُعلم علم البيان ، و لما كنت طماعاً فقد أقمت للثرثرة سوقاً عظيمة ، و مع ذلك فإنني كما تعلم يا رب فضلت الطلبة الأمناء - حسب ظني –
و هؤلاء علمتهم الخداع بدون قصد لا لكي يستعملوه في إهلاك البرئ و إنما لكي يستعملوه أحياناً في إنقاذ المذنب .
و أنت يا الله قد لاحظت من بعيــــد  
كنـــــت أتعــــثر في تــــــلك المســالك الزلقـــــة ،
فأرسلت إليَ أشعة إيمانك - وسط دخــــان كثيف -
لتهدينـــــي و خلصتنــــي من محبة الزهو الكاذب .

لقد كنت أعاشر في تلك السنين امرأة بلا زواج ، و كانت تلك المرأة لا تميز في عشقها الجامح بين إنسان و إنسان و مع ذلك فلم يبق و فياً لها سواي .

و بواسطة هذه المرأة اختبرت الخلاف القائم بين الميثاق اللازم لإنجاب النسل و بين محبة الشهوة حيث يولد الأطفال ضد إرادة و الديهم مع أنهم يجبرون علي محبتهم عندما يولدون .
-3-
استشارته العرافين
إنني أتذكر كيف أنه في ذلك الوقت و عندما أردت أن أتقدم لكتابة قائمة إحدى الجوائز التقليدية ، أتذكر أنه جاءني أحد العرافين سائلاً إياي ماذا أعطيه لكي يرشدني إلي ما أعمله لكي أربح تلك الجائزة .

  و لما كنت أبغض ذلك العراف و أبغض كل أسراره القبيحة فقد أجبته بأنه لو أمكن أن يتحول إكليل الزهر الذي يُمنح جائزة إلي إكليل من الذهب الخالص فإنني لا أقبل أن أربحه عن طريق القتل حتى و لو كان ما يقتله ليس إلا ذبابة واحدة ، ذلك لأن عادته كانت أن يستعين بقتل بعض المخلوقات الحية ليقدمها ذبائح للشياطين ليدعوها لمساعدتي .

لقد رفضت هذا الشر العظيم ، و لم يكن هذا الرفض خالصاً من أجل محبتك يا إله قلبي لأنني لم أكن بعد قد عرفت كيف أحبك أنا الذي لم أكن أعرف كيف أتخيل إمكان وجود أي شئ خلف مادة منيرة !!

أفلا يمكن أن ترتكب الفسق مثل هذه النفس المتنهدة علي تلك الخرافات ، أو تعتقد في أمور باطلة و تتغذى بالهواء ؟؟

  إنني مازلت إلي الآن أرفض أن تقدم عني ذبائح إلي الشـــياطين ،  
و مع ذلك فإنني قدمت نفسي ذبيحة لهم باعتناقي تلك الخرافة ،
لأنه ليــــس هنـاك ما هــو أشر ممـن يقتـات بالهــــــــواء ،
لكي يشبع الشياطين بزيغانه و يصبح تسليتهم و هزئهم .

-4-
في ذلك الوقت و بلا أدني تردد استشرت أولئك المحتالين الذين أطلق عليهم اسم علماء الرياضيات ، لأنهم حسب عقيدتهم - كما كان يظهر لنا - لا يقدمون ذبائح
و لا يصلون إلي أي روح . إن هذه العقيدة كانت مشجوبة من كل المسيحيين ، لأنها تتنافى مع كل صلاح حقيقي .

 إنني أعترف بأنني قد استشرت هؤلاء المحتالين ،
لأنه من الخــــير لي أن أعــــترف بـــــذلك قائـــلاً  :
ارحمنــي و اشــــف نفســـي لأنني أخطأت إليك ،
من أن اسـتهين برحمتــك متـــذكراً كلمــات الرب :
( ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضاً لئلا يكون لك أشر ) .

لقد جري مذهب أولئك المحتالين علي الاجتهاد في هدم كل رأي سليم إذ أنهم يقولون ( إن سبب الإثم مقدر من السماء ، و هو من عمل الزهرة "و هي آلهة الحب "
و زحــــــل "و هو إله الزمان" و المريخ " و هو إله الحرب " ) ، فأخذاً بهذا الرأي يكون الإنسان الفاسد المتعجرف ، و المخلوق من دم و لحم ، بلا لوم ، لأن اللوم يقع علي خالق السماء و النجوم .

  من هـــو الخــــــــالق إلا إلهنـــــــــــــــــا ،  
الذي هو العذوبة الحقــة و منبع الصـــلاح ،
الذي يعطي كل إنسان بحسب أعمـــاله ،
و لا يرفض القلب المنكسر و المنسحق ؟؟

-5-
في تلك الأيام أيضاً قابلت رجلاً حكيماً و ماهراً جداً في الطب ، حتى ذاعت شهرته بين الناس . و لم يكن سبب هذه الشهرة هو طبه ، بل كان سببها أنه كان حاكماً رومانياً . لقد وضع هذا الرجل بيده إكليل الكفاح فوق رأسي السقيمة بذلك المرض ، الذي لا يستطيع شفاءه سواك وحدك ،

 يا من تقـاوم المتكــبرين ،
أمــــــــــــــــا المتواضعون ،
 فتعطيهـــــم نعمـــــــــة .

فهل استخدمت أنت هذا الرجل العجوز لإهلاكي ،
أم أنك امتنعت فقط عن شــــفاء نفســــــــــي ؟؟

لقد لازمت هذا الرجل عندما عرفته ، و كنت أواظب علي سماع أحاديثه الطلية ،
و عباراته الواضحة القوية . لقد استنتج من حديثي معه ، إنني كنت مغرماً بكتب علماء الفلك ، فنصحني بلطف و كأب أن أنبذ هذه الكتب ، و أن لا أقيم وزناً لهذه الأباطيل ،
و أن أعتني و أجتهد بما هو ضروري و لازم ، قائلاً لي :
إنه درس في صغره الطب ليتخذ منه مهنة يعيش منها ، ظاناً إنه بدرسه كتب" ابقراط " يمكنه أن يفهم سريعاً علماً كهذا . و مع ذلك فإنه لم يلبث أن نبذها و تركها لا لسبب سوي أنه وجدها ملفقة تلفيقاً ، و إنه كرجل لا يود أن يكسب عيشه بإغواء الناس ، حتى لقد قال لي :   
   إن لديك علم البيان و من ورائه تستطيع أن تكسب عيشك فعليك بتعليم هذا العلم المباح ، و أعطني شهادة بأنني قد درسته - أنا الذي قد تعبت في إجادة تحصيله - كي أربح من ورائه عيشي .

  و لما سألته كيف يمكن لعلم البيان أن يوصلني إلي حقائق الأمور، أجابني علي قدر استطاعته قائلاً  :
أن قوة الصدفة الكائنة في نظام الكون ، كفيلة لأن توصلك إلي الحقائق ، و ذلك إنك عندما تقلب صفحات ديوان أحد الشعراء الذين نظموا الشعر،
و فكروا في أشياء تخالف ما تفكر فيه ، فإنك كثيراً ما تجد بيتاً من الشعر يطابق تمام المطابقة و بنوع عجيب لما يجول في فكرك ، و يدور في ذهنك ، و هذا لا يمكن أن يكون مجرد صدفة تثير عجبك ! أما الإنسان الذي لا يدرك من روحه ما يحل محل الصدفة ، فكثيراً ما ترشده غريزته الطبيعية إلي الإجابة الواضحة ، ويكون هذا عن طريق الصدفة لا بمهارة السائل في حرفته أو عمله .
-6-
    و هكذا يا رب أعطيتني عن طريق هذا الرجل ، ما أفحصه في ذاكرتي فيما بعد .
و مع ذلك فإن هذا الرجل لم يستطع هو و نبرودس " أحد أصدقاء القديس أوغسطينوس و كان محبوباً لديه جداً ، كما كان صالحاً صلاحاً كبيراً و له مهابة و وقار و كان يحتقر جماعة العرافين " أن يستميلاني إلي أن أطرح جانباً نفوذ الفلكيين، الذي كان سائداً ،
و مع إنني حتى الآن لم أجد أي برهان حقيقي لما كنت أظن أن الشك لا يمكن أن يتطرق إليه . حقاً إن ما أنبأني به هذان الرجلان المعتبران كان نتيجة الصدفة و ليس من فن مراقبي النجوم .
-7-
حزنه لموت أحد أصدقائه
في تلك الأيام عندما بدأت في تعليم علي البيان في وطني اتخذت لي صديقاً ،
و كان هذا الصديق دون جميع الأصدقاء عزيزاً جداً عندي ، و كان في مثل سني في بداءة مطلع الصبا . لقد نشأنا معاً أطفالاً ، كما كبرنا نحن الاثنان معاً و تزاملنا في الدرس و اللعب .
و لكن صداقة اليوم لم تكن كصداقة الأمس غير مؤكدة ، لأن الصداقة لا يمكن
أن تكون قوية ما لم تأتلف بصديقك و تلتصق به بتلك المحبة التي يسكبها الروح القدس المعطَي لنا . و لقد نشأت تلك الصداقة مجرد صحبة رقيقة ، ثم زاد من حرارتها تلك الدراسات ، التي كانت من نوع واحد و كنا ندرسها معاً و لم يلبث أن أرتد عن الإيمان الصحيح -  لأنه إذ كان شاباً فإنه لم يدرس حقائق الإيمان جيداً و تماماً -  إلي بدعة أولئك المحتالين بسبب إغرائي له بها ، الأمر الذي تأسفت من أجله أمي .

لقد ضــــــل هذا الشـــــــــــــاب في الطـــريق الذي ضـــللت فيـــه ،
و ارتبطــــــــــــت نفســـــــــــي به ارتبـــــــــــــــاطاً قـــــــــــــــــوياً ،
و لكنـــــك يــا رب يا من لا تتخلى عن أبنــــــــــــــائك الذين يبتعدون عنك ،
أنت يا إله النعمة و نبع المراحـــم ،رددته إليــــــــــــك بوســـائلك المحييـة ،
                    أنت أخــــــذته من هـــــــذه الحيـاة ،
                    عندما أتــــــــم ســنة كاملة معـــي في صـداقة نادرة ،
حتى كانت حلاوته عنـــــــــــــدي أحلي من كل حلاوة ذقتها في حياتي .

-8-
من يقدر أن يحصي كل الأعمال
التي يختبرها الإنسان في نفسه و يسبحك من أجلها ؟
ماذا فعلــــــــت معــــــي يا إلهــــي في ذلك الوقـــــت ؟
حقاً ما أبعد آراءك عن الفحص و حكمتك عن الاستقصاء .

لقد تركت صديقي نائماً فوق فراش المرض بلا حراك، بين الحياة و الموت ،
و قد جعلته الحمي في غيبوبة طويلة ، فلما يئسوا من شفائه عمدوه دون أن يدري .

أما أنا فلم أهتم بمعموديته ، معتقداً أن نفسه ستُحفظ سالمة بفضل ما تعلمـــــه مني
لا بما ناله و هو في غيبوبته ، و لكن الذي حدث كان علي عكس ذلك تماماً ، فإنه عندما تقوي و ابتعدت عنه الحمي و أصبحت قادراً علي أن أتكلم معه بعد أن استطاع أن يتكلم ، لأني لم أفارقه مطلقاً أثناء مرضه ، في ذلك الوقت أردت أن أمزح معه ظاناً أنه هو أيضــاً يريد أن يمزح معي بتلك المعمودية التي حصل عليها عندما كان لا يعي شيئاً ، و لكنه إذ كان قد عرف أنه قد تعمد احتقرني كأنني عدوه ، و طلب مني بصراحة عجيبة و غير متوقعة ، بأنني إذا أردت أن أحافظ علي صداقته ، فيجب علي ألا أتكلم بهذه اللغة معه . و لما كنت في غاية الدهشة و العجب ، كظمت ما بنفسي حتى يشفي تماماً و يكون في صحة تامة تمكنني من أن أعاتبه كما أريد .

 و لكنك يا رب أبعدته عن هذياني ، و أخذته لتحفظــه معك لأجــل راحته ،
إذ بعد أيام قليلة عندما كنت غائباً بعيداً عنه ، عاودته الحمي ثانية و مات.

-9-
لقد نزلت علي نفسي تلك المصيبة نزول الصاعقة ، فأنقبض لها قلبي انقباضاً شديداً ،  فما كنت أبصر أمامي سوي ظلام الموت ، لقد صارت مدينتي لي ألماً وصار بيت أبي لي غماً وهماً ، و أصبح كل شئ كنا قد اشتركنا فيه معاً عذاباً أليماً . لقد فتشت عنه في كل مكان و لكني لم أره ، و لم تستطع عيناي أن ترشداني إلي أنه قادم كما كان يحدث في غيابه عندما كان حياً .

    لقد أصبحــــت لي نفســــــي لغـــــزاً معقـــــــداً ،
و سألتها (لماذا هي هكذا حزينة و لماذا تئن في) ؟
و لكنهـــــــا لم تكـــــــن تعلـــــــــــــي بمــــاذا يجـــيب ،
و عندما كنت أقول لها ( ترجي إلهك ) كانت لا تطيعني،

و كانت علي حق ، لأن ذلك الصديق العزيز جداً كان رجلاً مخلصاُ ، و كان من ذلك الطيف الذي زادت نفسي في الاعتقاد به ... إن الدموع وحدها هي التي استعذبتها فكانت حلوة لي ، لأنها حلت محل صديقي في أثمن عواطفي .

-10-
و الآن يا رب ، و قد اجـــــــــتزت هــــــــــذه الأمــــــور ،
                و قد سَكَن الزمن جراح قلبي المصدوع .

أفيمكـــن أن أتعلـــــم منـــك أيهــــــا الحـــــــــــق ؟
أيمكننـــي أن أقــــــرب أذنــــــي فؤادي نحو فمـــك ،
لعلك تخبرني لمــــــاذا يحــــــــلو البكــاء للحــــزين ؟

و هل أنـــــت أيها الموجــــود في كل مكــــــــــــــان ،
رميتنـــــــــي في تعاستي و حـــزني بعيـــداً عنـك ؟

... أنت وحدك الدائـــم في نفســـــــــــــــــــــــــــك ،
أما نحـــــــــن فتتقاذفنــــــا مصــــــــائب كثـــــــــيرة ،
و إن لـــــــــم نبك في أذنيك فلـــن يكـــون لنا رجــاء .

إن الثمـــار الحلوة لا تُجمـــع إلا من :
شـــجرة الحياة المـرة ، و من الأنــــــين و من الدمـــــوع              
                          و من التنهــدات و من الشكايات !

فإذا كان لنا رجــاء في أنك تســتجيب لنـــــا ،
فإن هـــذا يجعـــل الحيــاة حلـوة في أنظارنا .
و هـــذا لا يأتــــي إلا مــن الصــــلاة إليــــك ،
التي توجـــد فينــا الشوق للاقتراب منــــــك ،
و لكن أيوجد هــذا الشوق عندما نفقد أحداً ؟

أكــــــان هـــــــذا الشوق موجـوداً في الحزن ،
الذي كنت مغمـــوراً فيـــــــه في ذلك الوقــــــــــــــــت ،
الذي لم أكن أتوقع فيه عودة صديقي ثانية إلي الحياة ،
و لم أبك مـــــــن أجــــــل عــــــودته إليهــــــــــــــــا ؟!

إنني بكيت و حزنت لأنني كنت تعيساً و فقدت كل سبب للفرح ،
فهـــل يكـــــون البكـــــــاء حقـــــــاً أمـــــــــراً محــــــــــزناً ،
و هل نبكي من أجل محبة الأشياء التي كنا نُسر بها قبلاً ،
و هل عندما نشــــمئز منها نُســــر في ذلك الوقـــــت ؟!
-11-
بماذا أجيب عن كل هذا ؟ لأن هذا وقت الاعتراف و ليس وقت السؤال !!
لقد كنت تعساً و كانت نفسي كذلك تعسة لأنها كانت مرتبطة بحب أشياء فانية ،
فلما فقدتها شعرت بالبؤس الذي كانت فيه قبل أن تفقدها .
هكذا كان الأمر معي لذلك بكيت مر البكاء ، و وجدت الراحة في الحزن فشقيت لقد اعتبرت هذه الحياة التعسة أغلي من صديقي، لذلك فإنه رغم أنني كنت أود أن أغيرها عن طيب خاطر ، فإنني لم أود أن أتركها ، و كنت أفضل البقاء فيها علي أن أكون حيث هو .
و في الحقيقة إنني لا أدري هل كنت أود أن أترك الحياة لأجله كما قيل - إن كان ذلك صدقاً  " بيلادوس " و " أورستس " اللذين كانا يودان بكل سرور أن يموتا لأجل بعضهما ومع بعضهما ، لأنهما كانا يعتقدان أن حياة أحدهما بدون الآخر أسوأ من الموت .

  و لكن شعوراً خفياً اشرق في قلبي متعارضاً مع هذا العمل حتى إنني بالرغم من كراهيتي للحياة فقد خشيت الموت و كرهته كعدو قاس جداً أبعدني عن صديقي ، الذي أحببته كثيراً و تصورت أنه سيقضى علي جميع الناس سريعاً ما دام قد قضي علي صديقي ... هكذا كانت حالتي .
هـــــــــــوذا قلبـــــي يا إلهــــي ،
أنظـــــــــر إليــه و افحصـــــــني ،
لأنني أتذكر ذلك جيداً يا رجائي ،
يا من تطــــــــــــــــــــــــــهرني ،
عندما أتطلع إليك بكلتا عيني من دنس هذه العواطف ،
أخــــرج من الشـــرك قدمـــي لأنني ضـــللت عنـدما ،
و جدت أناساً كثيرين كانوا علي شفا الموت و نجـــوا ،
و مات صديقي الذي كنت أحبه ،
و كنت أتمني ألا يمـــوت أبـــداً .
  إنني أتعجب من نفسي كيف تمكنت أن أعيش بعد موت صديقي الذي كنت له أشبه بظله ، لقد قال لي أحد أصدقائنا ( أنت نصف روحه ) ، لأنني كنت أشعر أن نفسينا كانتا ( روحاً واحداً في جسدين ) ، لذلك فإن حياتي بعده كانت مروعة لي ، لأنني لم أكن أود أن أعيش مشطوراً ، كما أنني خفت أن أموت ، لئلا يموت كل الذي أحببته !!
-12-
آه من غباء الإنسان الذي لا يعرف كيف يحب أصدقاءه
كما يحـــــب بقيـــــة النـــــــاس بعضــــــــهم البعض !!

كـــم كنت غبيـــــاً في ذلك الوقـــــت ،
و كم كنت أكابد من أحزاني و آلامي !!

لقـــــــد اضطــــــــــــــــربت و تنهدت و بكـــيت ،
لقــــــد كنت مضطـــــــــرباً و حــــــــــــــــــائراً ،
دون أن أعثر علي شـــــاطئ أرســو عليــــــه ،
و كانت نفسي منزعجــــــة و منتفخة و دامية ،
فلم تستطع أن تنال الراحة.
          ...إن الغابات الهــــادئة لم يكن فيهــــا ما يطمئنني ،
          و الموســيقي العــذبة لم يكن فيهــــا ما يشـجيني،  
          و في جمال البساتين لم يكن فيهــــا ما يســـرني ،
          و في بهجة الحفــلات لم يكن فيهــــا يطــــــــربني .
أما الكتب و الأشـــعار فكنـــــت لا أجــد فيهــــا عـــــــــــــزاء ،
الانغماس في إرضاء الشـــهوات لم يكن لي فيه متعة أو لذة .

إن كل شئ - حتى منظر الضوء - كان يبدو أمامي مشابهاً لمنظر الموت ،
و كل ما كنت أراه كان يظهر علي غير حقيقته ، أما نفسي فكانت تكره كل شئ ما عدا الدموع و الأنين و التأوهات فهي وحدها التي كنت أجد فيها بعض الراحة و العزاء ، حتى إذا ما تخليت عنها شعرت بأني أنوء تحت ثقل جميع بلايا العالم و أرزائه، و إن هذه البلايا و الأرزاء تغوص بي إلي أعماق الهاوية .

* * *
إننــــي لو تطلــــعت يـــا رب إليك ، لوجـــدت الفــرح بقــربك ،
لقد أدركت هذا ، و لكن نفسي لم ترغب في أن تذهب إليك ،
فلمـا فكـرت فيك لم يكن لهـــذا التفكـــير صــدي في نفسي ،
لأنها لم تعرفك علي حقيقتك ، بل كنت عندها مجرد خيال عابر …

لقد ضللت لعدم معرفتك ،
و لهذا فشلت عندما حاولت أن أزيح عن عاتقي ثقل أحزاني ،
و كان الثقل ينزلق متســللاً إلي أســفل مطبقاً علي قلبي !
فيزيد ألمي و تعبي .
آواه من تلك الأحزان ... لقد صارت رقعة سوداء أمامي !
لا أســـــتطيع أن أجـــــد لنفســــي منهـــــا مهـــــرباً ...
لأني لا أســتطيع أن أهـــرب من قلبــــي و نفسي ..!!
و مــــع ذلك فقــد هـــــربت إلي خـــــارج و طنـــــــي …
إلي قرطجنة حيث لم تكن عيناي قد اعتادتا أن تنظراه ،
فكــــــــــان ســـــعيهما إلي التفــــتيش عنــــــــــــــه ،
أقل من سعيهما للتفتيش عنه في وطني" ثاجستا ".

-13-
إن الأزمنة لا يمكن أن ينقص منها زمان ، كما لا يمكن أن يطوي باطلاً أي زمن من الأزمنة ، و ليس هناك ما يفعل بأفكارنا أو يؤثر تأثيراً عجيباً في احساساتنا خير من الزمان ... إن زمن الأحزان أخذ يمر يوماً فيوماً، و بمروره بدأ زمان جديد يحل محله،
و بدأت ترتسم في عقلي تصورات أخري وخواطر أخري ، و هكذا أخذت أعود شيئاً فشيئاً إلي حياتي القديمة و أفراحي القديمة ، و انفثأت أحزاني فلم أسر وراء أحزان أخري ،
و إن كنت قد سرت وراء بواعث الأحزان .

إن الحزن القديم قد وصل إلي أعماقي ، حتى سكبت نفسي في التراب محبة في ذلك الإنسان الذي كان لابد أن يموت ، و مع ذلك فإني حزنت عليه كأنه لا يموت أبداً . لقد أبرأني من حزني القديم علي أصدقاء آخرون ، فأحببت معهم ما أحببت دون أن نحبك يا إلهي ، لأن نفوسنا كانت مدنسة بخرافة عظيمة و أكذوبة شائعة ،
و هي أن ندع المذاهب وراء ظهورنا ، و أن نكتفي بعمل الخير... فكنا ندنس أنفسنا بالفسق الذي كانت آذاننا تشتاق إلي التلذذ بالتحدث عنه ، و كنا نداعب بعضنا بعضاً ، و نقرأ معاً كتباً كلها ملق، كما كنا نمزح مع بعضنا ، و نغار علي بعضنا ، فتارة نفترق و طوراً نجتمع ، فإذا افترق أحد عنا اشتاقت إليه نفوسنا ، و إذا عاد إلينا رحبنا بعودته لنا .
-14-
هذا ما منا نحبه نحن الأصدقاء ، و لهذا كانت ضمائرنا مستريحة ، ما دمنا نحب من يحبنا ، و لا نحب من يبغضنا ، غير مهتمين بهذا الشيء أو ذاك ، بل كنا مهتمين بما يربطنا من روابط الألفة و المحبة ، فإذا مات أحدنا انغمست قلوبنا في الأحزان ،
و غرقنا في النواح و الكدر ، و تحول كل ما كان عذباً إلي مرار ، فيعيش الحي ميتاً بعد فقد الذي كان حياً .  

و لكـن طـــــوبى لمـن  يحبـــــــــــــك يا إلهــــي ،
و يجعـــــــــــــــــــــلك ، وحـــــــــــــدك صديقــــه ،
فيعادي من يعــــاديك ، و يحــــب من يحبـــــــــك ،
فمثل هذا الإنســــان ، لا يمـــوت لديه أبداً عـزيز ،
لأن مــن يحبهــــــــم ، إنمـــــــا يحبهــــم فيــــك .

أنت الذي لا تموت ... أنــــــــــــت وحـــدك إلهنـــــــــــا !!!
أنت وحــدك الإله الــــــــــــــــــذي يمـلأ السـماء و الأرض ،
و مادمـــــــــــــت تملأهمــــــــــــا فأنت هــــــــو خالقهمـا ،
و أنت وحــــــدك الذي لا يخسرك إلا من يبتعـــــد عنـــــك ،

و لكن إلي أين يذهــــــب و إلي أيـــن يهــــــــــرب ؟
هل يمكــن أن يُســــــــــر بالبعـــــــــد عنـــــــــــك ؟
             أو يحـــــــــزن بالقــــــــرب منــــــــك ؟!!
أنت وحـــــدك هـــو الحق و ناموســـك هو حــــق .
-15-
كتابات عن الحَسن و المناسب
    أيها الرب إله الجنود تطلع إلينا ، و أرنـــــــــــا وجهــــــــــك فنحيـــــــــا .
إن نفوســـــنا ســــتظل قلقـة ، ما دامــــــت منحـــــــــرفة عنـــــــــك ،
كما ســـتظل مثقــلة بالأحزان ، ما بقي تعلقها بحب الكائنات الجميلة .
و مع ذلك فإن :
هـذه الكائنـات هـي منـــــــــك  لأنها لا تقدر أن تكون ما لم تكن آتيه منك .
إن هذه الكائنــــات الجميـــــلة ، تظهر و تتكاثر و لكنها لا تلبث أن تــــزول ،
إنها تنمــو و يسـتمر نموهـــــا  ، حـــــــتى يبلـــــغ حــــد الكمــــــــــــــال ،
و لكنهـــا لا تلبــث أن تفنــــي ، إنها جميعاً لا تبلغ مرتبة الشـــــــــيخوخة ،
و لكنهــا جميعــاً لابد أن تموت .
    إن كل كائن منها يرغب في أن يكون جميلاً ، بل يرغب في أن يصل إلي أعلي مراتب الجمال بسرعة حسب الناموس الذي أعطيته , و مع ذلك فإن جميع أجزائه لا تظهر دفعة واحدة ، و لابد أن يزول جزء قبل أن يظهر جزء آخر ، و من تعاقب أجزاء بعض الكائنات و زوال غيرها يتم تكوين عالمنا هذا ، مثل ذلك مثل الكلام الذي ننطق به فإنه لا يظهر إلا عندما ننطق به علانية ، و مع ذلك فإنه لا يتم إلا عندما ننطق بآخر كلمة لئلا يكون هناك كلام بعدها .

    دع نفسي تسـبحك من أجل هذه الكائنات يا خالق الكل ،                   
و لكـن لا تدعــــــــها متعـــــــلقة بحبهـــــــــــــــــــــــــــــا ،
لأنها إذا تعلقت بحبها فإن هـــذا الحــــب سيفســـــــدها ،
و لا يجعلها تســتريح إلا مـــــن دوام وجــــــــــــــــــــودها ،
و هي لـــــن تــــدوم .

لأنهـــا لابد أن تمضــــي إلي حيث يجـــب أن تكــــــــون ،
في المكــــــــــــــــــــان الذي حـددته لانطلاقهــــــــــــــا ،
لأنها بكلمتك أبدعـــــــت و بكلمتك تسمع الحكم عليهــا ،
بأن تمضـــــي إلـــــــــي نهايتها المحتومة ( من هنا إلي هنا ) .
 
-16-

  آه يا نفسي كوني عاقلة
  و لا تدعي غوغـــاء الحمــــاقة تغـــــلق أذنـــــي قلبـــــــك ،
فإن الكلمة يناديك أن ترجعي إليه حيث ركن الراحة الركين …

إن جميع الكائنات تزول و تخلفها كائنات أخري تحل محلها ،
ليكتمــــل نظــــــام هـــــذا الكـــون ،
و لكن إلي أين تنطلقين يا نفسي ؟

إن كلمــة الله يقــــول لك :
هنــــــاك يثبـــــــــــــــــــــــــت مسكنك، ثقــي يا نفسي بكــــل مــا هناك ،
إنك ألان تنوئين بالأباطيل فثقي بالحـق ،و ثقي بأنك لن تفقدي شيئاً هناك ،
لأن كل ما هنـــاك هــــــو مــــن الحق .

هنـــاك ســــوف :
                    تزدهــــــــــــــر شـــــــيخوختـــــــــك ،
                  و تشـــــــــــــفي كـــــــــل أمــــراضك ،
                  و تتجدد كل أطرافك الميتــة فتحـــيين ،
                  و تبقـــــين إلي الأبــــــــــد أمــام الله ،
                  الذي يـــــــدوم و يثــــــبت إلي الأبــد .

-17-
لماذا تضلين يا نفســـي و تتبعين أهواء الجسد ؟
توبي و أتبعي ربك فإنـــه يعلـــم كل ما تعمــــلين،
و إن ما تعملينـــه ليـــس إلا جزءاً مما يعلمه هــو
و مع ذلــــــك فإنــــــــــك تبتهجــين بمــا تعمـلين.

أن الله يعاقب الإنسان بعل عندما يحرمه من بعض ما يريده ،
لأن كل ما هو موجود في العالم مصيره إلي الزوال و لن يتبقى إلا الكل ،
الذي به يكون فرح الإنسان فرحاً حقيقياً .

   لأن الإنسان إذا استمع إلي كلمة من الكلمات فإنه لا يدرك المقصود بها ، إذا كان هناك نقص في مقاطع هجائها ، فهو لذلك لا يود سماعها إلا و قد اكتملت مقاطعها ،
و هكذا شأن الإنسان بالنسبة لما في العالم من كائنات ، فإنه لا يسر إلا بوجودها معاً ،
و سروره بوجودها معاً يكون أكثر من سروره بواحد منها ، أو سروره إذا نقص شئ منها ...
إن اللــــــه هـــــو خــــــــالق جميع الكائنات ،
          و هـــــو أفضـل من هـــذه الكائنات ،
إنهـــــــــــا تـــــزول لتحـــــل محلهــــــــــــــا كائنات أخري ،
أما هو فإنه لا يزول و لا يوجد من يستطيع أن يحــل محله .
-18-
إذا كــــان هنــــــاك بين الكائنات ما يســرك ،
فســــبح اللـــــــــه مــــــــــــــن أجلـــــــــه ،
و أرجـــــع محبتك له لأنـــه هــــو الذى خلقه ،
و إلا انقلب ســـرورك حـــــــــــزناً إذا فقدتــه .

إذا كانت هنـــالك روح تسرك  فأحببها باعتبارها جزءاً من روح الله ،
لأن أرواح الكائنات متقــــــلبة و لا ثبـــات لهـــــا إلا فـــي روح الله ،
و بدونــه يكــــون مصــــــيرها إلي الفنــــــــــــاء .
فلتحــــــــــــــب ما تحب في الله ،
و لتحمـــــل إليه معـــــــــــــــــــك ما تقدر أن تحمله من الأرواح
و لتقــــــل لهــــا فلتحبـــــــي الله ، فلتحبـــــــــــــي اللــــــــه ،
إنه هــــــــــــــو خالق كل شئ ،
إنه ليـــــــــــس بعيــــداً عنــــا ، إنه لم يمـت بعد أن خلق ما خـــــلق ،
و لكنـــــــــــــــه لا يزال باقيـــــاً ، و كل شئ منه و فيه يظل باقياً أيضاً .

  انظــــري فــــــإن الله موجـــــود في كل مكان يحــــب فيه الحــــق ،
إنــــــــــــــــــــه داخل القــــلب و مع ذلك فهـل يــــزوغ القلب عنه ؟

ارجعوا إلي قلوبكم أيها الخطاة  و تمسكوا بثبات في الله الذي خلقكم .  
قفــــــوا معـــــــــه فتثبتــــــــوا ، اسكنوا معـــه فتكـــونوا في ســـلام .

  إلــــــي أي سـبل و عرة تمضون ؟
و إلـــــي أين تذهبــــــــــــــــــــون ؟
إن الحسن الذي تحبونه هــــــو مـــــــن اللـــــــــــه ،
                          و هــــو الحسن و الســــرور .
و إذا ابتعــــــــدتم عنـــــــــــه و أحببتــم غــــــــــيره ،
فإن الحسن الذي تحبونه يكون ممزوجاً بالمــــــــرارة ،

لأنه ليــــــــــــس مـن العدل أن نحــــب شــــــــــيئاً ،
و نرفـــــــــض الله بســـــــــــبب محبتنا لهذا الشيء .

إلي متي تودون أن تسيروا
في تلك المفـــاوز المتعبــــة التــــــــــــــي مازلتم تســـــــيرون فيهــــــا ،
إن الراحــــــة لا توجـــــــــــد فـي أي مكان تبحثون عنه في تلك المفاوز .
فتشتوا و ابحثوا عما تريدون ،
و لكن أعلموا أنه :
           لا توجد راحــــــــــــة حيث تفتشون و تبحثون ،
لأنــــــــــه لا توجد حياة سعيدة فــي أرض المــــــــــوت ،
إن الحيـــــاة الســــعيدة لا تـــــوجد هناك ،
إذ كيف يمكن أن توجد الحياة السعيدة
حيث لا يمكن أن توجد الحياة ذاتهـــــا ؟!

-19-
  إن اللـــــــه الكلمــــة - حياتنا الحقيقيـــــة –
نـــــزل إلـــي الأرض و أنزعج ملاك المــوت ،
                        و زلزل ســــــــــــلطانه بقـــــوة حياته ،
لقد نادي بصــــــــــــوت عــال كالـــــــــــرعد ،
لقد نادانا بأن نرجع من أرض المـــــــــــــــوت ،
إلي ذلــــــــــــــــــــــك المكــــان الخفــــــي ،
الذي أتي منه متجسداً في الحشاء البتولى ،
خاطباً إليه الخليقة البشرية - التي هي جسدنا المائت -
حتى لا نموت إلي الأبــد .
  
  إنه كالعريس الخارج من خدره و كجبـــار راكض في طريقـــــــه ،
غير متردد بل اندفع منادياً بصوت عــال :
                                              بكـــــــلام و أعمــــال ،
                                              بمـــــــوت و حيـــــــاة ،
                                              بنـــــــزول و صعـــــود ،
آمراً إيانا بأن نعود إليه ثم غاب عن أعيننا لعلنا نرجع إلي قلوبنا ،
                         و هنـــــاك نجــــده و إن كـان قد مضــي .
   لأنه لـم يــرد أن : يمكث معنا علي الأرض طـويلاً ،
و مــــــع ذلــــــــــــــــــــك فــإنه لم يتركنــــــــــــا ،
لأنه ذهب إلي ذلك المكان الذي لم يفارقه مطلقاً ،
مع كـونه كـان علي الأرض .

لأن العالم به كون و هــو كان في العــالم ،
و قد أتي إلي هذا العالم ليخلص الخــطاة ،
و له تعـــــترف نفســـي و هــو يبــــــرئها ،
لأنها أخطــــــأت إليــــــه .

آه يا بني البشر ، حتى متى تثقــــل قلوبكـــــــم ؟
و حتى بعد نزول الحياة إليكم لا تنهضون و تحيون ؟

إلي أين تصعدون عندما تتشامخون ،
و ترفعـــــون أنوفكــــم نحو السماء ؟

تواضعوا لعلكم ترتفعون و تصعــدون إلي الله ،
لأنكم لم تسقطوا إلا لأنكم تشــــــــامختم .
فليصغ المتشامخون إلي هذا ،
لعلهم يبكــون فــــي وادي الدموع فيرتفعــون إلي اللــــــــــــــه ،
لأني إذ أتكلم معهم فإني أتكلــم بــــروح الله متقداً بنار المحبة .

-20-
في ذلك الوقت لم أكن قد أدركت هذه الأشياء ، فأحببت الكائنات الجميلة الأرضية ، فهبطت إلي قرار الأعماق قائلاً لأصدقائي :
لا نحب شيئاً سوي الجميل ، فمن هو الجميل و ما هـــو الجمال ؟
و ما هي الأشياء التي تغوينا و تستميلنا إلي الكائنات التي نحبها ؟
لأنه إن لم يكـــن في الكائنـــــات التي نحبهــــا حسن و جمـــــال ،
فإنها لا تقدر أن أبداً أن تجذبنا إليها .

لقد فطنت و لاحظت أنه يوجد جمال في أجساد الكائنات ، لأنها مكونة من طبقة من الكل ، و لأنها تكون طبقة أخري من الأشياء المتفقة و المتشابهة و المتبادلة معها مثلما يتطابق أحد أعضاء الجسد مع الجسد كله ، أو مثلما يتطابق حذاء مع قدم أو ما شابه ذلك ... لقد نبت هذا التأمل في عقلي ، نابعاً من أعماق قلبي ، و أتذكر إنني كتبت كتابين أو ثلاثة عن ( الحسن و المناسب ) ،
و أنت تعلم يا رب أن هذه الكتابات
قد فُقدت مني لأنها لا توجد عندي و لا أعلم كيف فُقدت .

-21-
و لكن ما دفعني أيها الرب إلهي أن أهدي هذه الكتب  لـ "هيريوس " وهو أحد خطباء روما الذي أحببته دون أن أقابله بسبب ما أشتهر به من علم ؟
لقد سمعت بعض كلماته فأعجبتني. لقد أبهجني كثيراً ما سمعته عنه كما أبهج آخرين سواي فمجدوه كثيراً ، و أدهشوا لأنه وهو سوري الجنس قد تملك أعنة البلاغة اليونانية ، ثم أصبح فيما بعد خطيباً لاتينياً لا يشق له غبار ، كما أصبح أكبر عالم في العلوم و الفلسفة ، حتى مدحه الجميع ، مع أن أكثر من مدحوه و أحبوه لم يشاهدوه .

و لكن أيمكن أن تدخل المحبة في قلب السامع من فم المادح ؟
إن الأمر ليس كذلك إذ أن المحبة تدخل بواسطة أحد المحبين الذي يضرم الآخرين بمحبته ، ولذلك يُحب الممدوح بتمجيد المادح المخلص عندما يمدح من أحبه .
-22-
في ذلك الوقت أحببت أولئك الناس الممدوحين من البشر ، و ليس الممدوحين منك يا إلهي ، يا من لا ينخدع فيك إنسان ، و مع ذلك لم أحب أولئك الناس بسبب ما تميزوا به من الصفات العامة التي أحبهم الناس من أجلها في كل جهة و كل جانب ، مثل ما يحبون الحوذي المشهور أو مصارع الوحوش في الملعب إذ أن الأمر عكس ذلك إلي حد بعيد ، فإنني و إن اشتقت أن أمدح فإنني لم أرغب في مديح مثل ذلك المديح الذي يكال للممثلين الذين وإن كنت قد أحببتهم و مدحتهم ، فإنني كنت أود أن أكون مغموراً من أن أشتهر كما اشتهروا ، و كنت أود أن أكون منبوذاً من أن أكون محبوباً مثل حبهم .

و إذا كان الأمر كذلك فما هي الأسباب التي تحرك أنواع الحب المختلفة في النفس الواحدة ، و إذا كنا جميعاً بشراً متساوين ، و إذا كنت لا أبغض أحداً ،
فلماذا أحب صفة في شخص آخر لا أود أن يكون لي مثلها ؟؟
 إن هذا الأمر لا يُحتمل !! لأنه إذا كان كل جواد يود أن يكون مثل ذلك الجواد الأصيل المحبوب من الجميع فهل أكون أنا وحدي الإنسان الذي يحب في إنسان صفات يكره أن تكون له . حقاً إن الطبيعة البشرية لغز يعسر حله ؟ ولا يستطيع أحد أن يسبر أغوارها سواك ن يا من تحصي شعورنا فلا تسقط واحدة منها علي الأرض إلا بإذنك ، و مع ذلك فإنه قد يسهل علينا أن نحصي شعور رؤوسنا ، دون أن نستطيع إحصاء احساساتنا و ضربات قلوبنا .
-23-
و لكن ذلك الخطيب الذي أحببته ، كان من النوع الذي كنت أنا نفسي مشتاقاً لأن أكون مثله ، حتى لقد ضللت في إعجابي العظيم به ، و تقاذفتني الرياح من كل جانب ، ولكنك أنت يا رب كنت في الخفاء جداً تدبر أموري .

من أين أعرف ، و كيف أعترف لك بأنني أحببت ذلك الخطيب بسبب حب مادحيه له ، أكثر من حبي له ، بسبب الصفات التي مدحوه من أجلها ، فلما ذمه مادحوه أنفسهم و أخبروني عن سبب ذمه و ازدرائه ، فترت محبتي له وصرت غير متأثر به ،
و مع أن السباب التي ذموه من أجلها لم تكن جديدة عليه ، كما أنه لم يصبح شخصاً آخر ، ولكن الذي تغير هو شعور المتحدثين عنه .
تطلع يا رب و أنظــــــر إلي نفســــي الضعيفـــــة ،
لأنهــــــا حــــــتى الآن لم تتــدعم بعــدالة الحـــق ،
بل هي مثل تلك الثورة التي تقوم في صدر الحقود ،
فيندفـــــــع لســـــــانه في هـــذا الاتجـــــاه أو ذاك ،
نافثـــاً ســــموم حقـده تــارة بسـرعة و طـوراً ببطء ،
قالبـــاً النــــــور ظلامـــاً حاجبــــاً الحق عن العيـــان .

لقد كنت مهتماً اهتماماً كبيراً بأن يعرف ذلك الرجل مقالتي و مقدار ما عانيت في تسطيرها ، و كنت مضطرباً جداً ، لمعرفة ما يستحسنه خاشياً أن يستقبح عملي فيجرح قلبي الخالي من حكمتك. و مع ذلك فإني تمعنت وعاينت كتابي الذي كتبته إليه
( الحسن و المناسب) الذي لم يعن إنسان بالالتفات إليه حينذاك .
-24-
قبوله تصورات خاطئة عن الله
و مع هذا فإنني لم أتحول بسبب ذلك الأمر الخطر إلي حكمتــك ،
أنت أيها القادر علي كل شئ ، و صــــانع العجـــــائب وحــــــدك .
لقد طافت بعقلي صور جسدية ، و أدركت السر فيما هو (حسن) و (مناسب)
اللذين لا يكون لهما جمال إلا في مطابقة الشيء للشيء الآخر .

  و لقد دعمت هذا الرأي بأمثلة جسدية ، و كنت منقاداً في هذا بعقلي ، و لكن الشعور الكاذب عن الأشياء الروحية الذي كان مسيطراً علي لم يدعني أري الحق ،
و لكن قوة الحق ذاتها قد بهرت عيني و أبعدت من نفسي التفكير في الأجسام غير المادية إلي المناظر و الألوان و الأشياء كثيرة الأهمية .

 و لكوني كنت عاجزاً عن إدراك هذا بعقلي ، ظننت إني لا أقدر أن أدرك كنه عقــلي . لقد أحببت في الفضيلة السلام ، و كرهت في الشر الخصام ، لأني لاحظت في الأول اتفاقاً ، و وجدت في الثاني انشقاقاً . و في ذلك الاتفاق أدركت النفس العاقلة ، و طبية الحق ، و طبيعة الخير الرئيسي الذي يجب أن أتحصل عليه ،

   كما أدركت وجود الطبيعة الأولي للشر ، التي لا يمكن أن تكون مادة ، بل هي أيضاً حياة حقيقية ، و قد أدركت أن هذه الحياة لم تؤخذ منك يا إلهي ، يا من أُخذت منك كل الأشياء لقد دعوت طبيعة الخير (موناد) " جزء لا يتجزأ"  و اعتبرتها روحاً بلا جسد ، و دعوت طبيعة الشر ( دوؤاد) " و هو الذي يرتكب أعمال العنف و القباحة بغضب " غير عالم بحقيقة ما كنت أتكلم عنه ، لأنني لم أكن أعلم أو أعرف أن الشر هو مادة ، و لا أن نفوسنا هي في ذلك الحسن الرئيسي الثابت .   
-25-
إن أعمال العنف لا تظهر إلا عندما تفسد النفس و تضطرب ،
و حينئذ تنشب معركـــة شــديدة تهيج النفس بعتو و عناد ،
كذلك تثــــور الشهوات عنـــــــدما يختل توازن هوي النفس ،
فتجــد الملــــذات الجســــــــــدية ما يغذيهـــا و يقويهــــــا .

 إن الضلالات و الآراء الفاسدة تفسد النفس العاقـلة ،
  كمـــــا أفســـــدت نفســـــــــــي في ذلك الوقـت ،
  إلي أن أدركت إنني في حاجة لأن أضيئها بنور آخر ،
  لعلهــــــا تكـــــــــون مشــــــــاركة للحــــــــــــــق ،
  و أنت أيها الرب أضـــــأت سراجي و أنرت ظلمتى ،
  لأن مــــــــــــن امتــــــــلائك نحـن جميعاً أخذنــــا ،

  لأنك أنت هــــو النـــــــــــور الحقيقـــــي
  الذي يضيء لكل إنسان آتياً إلي العــالم ،
  و لا يـــوجد فيــك تغيـــير أو ظـــل دوران .
-26-
  لقد سعيت إليك مدفوعاً بك ، لعلي أعـــرف طريق المــوت فأتجنبــه .
إنك يا رب تقــاوم المتكـــبر ، فهل كان هناك من هو أكثر تكبراً مني ،
أنا الذي أردت -بنزق مكروه -أن أجعل نفسي علي طبيعتك و مثالك .

لقد كنـــــــــت أرغب بشدة في أن أكون حكيماً ،
و اشتقت لأن أصير في حالة أفضل من حالة الشر التي كنت فيها ،
لذلك كنــــــت مضطـــراً لأن أغير طبيعتــي ،
فاخـــــترت أن أتصــــورك معرضـــاً للتغيــير ،
من أن أتصــور نفسي علي غير طبيعتك .  
  أما أنــــــــــــت فقـــد قاومتنــــي و قاومت قساوة نفسي الباطلة ،
لقد تصــــــورتك نفسي في صور و أشكال مـادية ،
و لم أرجع إليك ، بل صــــرت مثــــل ريـح عــــابرة ،
و سبح تفكيري في أشكال ليس لها ظـــل منــك ،
أو من النــــاس ، و لــــم تخلقهــــا لفـــــــــائدتي ،
و إنما اخترعتها في صــــور و أشـــــــكال مــــادية .
  لقد اعتدت أن أسأل - بغباوة - أولئك المؤمنين الذين كانوا يقيمون في بلدتي و الذين لم أكن أعرفهم ، لقد اعتدت أن أسألهم أسئلة كثيرة تافهة ، مثل :
( لمـــــاذا تخطـــــئ النفـــس التي خلقهـــــــا الله ؟ )
و ذلك لأني لم أجرؤ أن أسأل ( لماذا إذن أخطأ الله ؟ ) .

و بهذه الأسئلة أكدت أن جوهرك غير المتغير قد أخطأ في إكراهنا علي عمل الشـــر .
و هكذا كنت أفضل هذه الأسئلة علي أن أعترف بتقلب طبيعتي الضالة ، و إنك لأجل تأديبي قد أسلمتني إلي الضلال .
-27-
لقد كنت في سن السادسة و العشرين أو السابعة و العشرين تقريبــــاً
عندما كتبت تلك المجلدات ،
و قد ترددت في داخــــلي و رنت في أذني قلبي تخيــــلات جســـــدية ،
و لكني لم ألبث أن رجعت عنها إلي نعمتك الباطنة يا أيها الحق العـذب .

  لقد تأملت في ( الحسن و المناسب )
استطعت أن أقف و أســــتمع إليــــك ،
و أبتهــــــــج بصـــــــــوت العريــــــس ،
و لكننـــي لم أقـــدر أن أدخل العـرس ،
لأن نغمات ضلالاتي أسرعت و ألقــت بي خـــــــارجاً ،
فهبطت سريعاً إلي أعماق الهاوية بتأثير ثقل كبريائي ،
إنك لـــــم تدعنــــــي أســــــمع فرحـــاً و ســـــــروراً ،
و لم تبهــــج عظــامي لأنهـا لم تتواضــــــــع إلي الآن .

-28-
في الثامنة و العشرين من أيامي القليلة ، وقع في يدي كتاب لأرسطوطاليس يــــدعي ( الأحوال العشرة ) فتعلقت نفسي بذلك الكتاب ، كما لو كان شيئاً نفيساً سامياً .
 إن أستاذي في علم البيان في قرطجنة قد نبذ هو و علماء آخــــرون - بعجـــــرفة
و كبرياء - هذا الكتاب . أما أنا فقد قرأته و فهمته ، دون أن أستعين بأحد ، و لمـــــا تفاوضت مع آخرين فيه قالوا إنهم لم يشرحوه شرحاً لفظياً فقط ، و لكنهم شرحوه مستعينين في شرحه برسومات علي الرمال ، و لهذا كان في مقدورهم أن يفهموني ما لم أستطع أن أفهمه بمفردي .

لقد كان هذا الكتاب ، كما بدا لي ، يتكلم بوضوح عن الأجسام مثل رجل ،
و عن الصفات مثل شكل الرجل ، و من أي نوع هو ، و عن القامة أي مقدار ارتفاعه ،
و عن نسبه من هو أخيه ، و عن مسكنه أين يقم و غير ذلك من الأحوال أين ولد ،
و هل هو واقف أم جالس ، و هل ينتعل شيئاً ، و هل يتسلح بشيء ، و هل هو يعمل عملاً ، و هل يتألم من شيء . كما كان هذا الكتاب يتكلم عن الأشياء الفائقة الحصر ، التي تندرج تحت تلك الحالة الرئيسية للمادة التي أعطي لها بعض النماذج .
-29-
  ماذا استفدت من هذه الأشياء التي كنت أنظر إليها ، و كانت تعيقني عنك ؟
إنني كلما كنت أتصور أن كل ما في الإنسان يندرج تحت هذه الأحوال العشرة كنت أحاول أن أختبر و أدرك و حدانيتك العجيبة الدائمة يا إلهي ،



كما لو كنت أنت أيضاً قد أخضعت نفسك لعظمتك أو لجمــالك ،
كأحد الأجســـام التي تنـــدرج تحــــت تلك الأحــوال العشـرة ،
غير عالم أنك أنت نفسك هـو عظمتــك و جمـــــــــــــــــــالك ،
أما الجســــــد غير العظيـــــم و الجميل فهــــــــــــو جســــد ،
حتى إنه لسبب عدم عظمته و جماله يجب ألا يكون جســـداً .

إن ما تصورته عنك يا إلهي كان كذباً و لم يكن حقــــاً ،
لأن ما تصورته لم يكن سوي خرافات تناسب تعاستي ،
دون أن يكــــــون حقائقـــــــاً تـلائم ســــــــعادتك  ،
لأنك قد أمــرت - و ما قد أمــرت به قد نفــــذ في -
إنــه يجب علي الأرض أن تخرج لي شوكاً و حسكاً ،
و أنه بعــــــــرق جبينــــــــي آكل خــــــــــــــبزي !
-30-
مــــاذا اســـــتفدت من تــــــلك الكــــتب التي قرأتهـــــــــــــا ،
و التي كانت خاصة بالمهن التي كانت تُعرف بالمهن الشريفة ؟
لقد قرأت هذه الكتب بنفسي ، و فهمتها ،
أنا الخبيث الأســـــير للأميــــال القبيحــة .
لقد قرأت هذه الكتب و فرحت بها ،
لأن ما فيها كان محققاً و مؤكداً دون أن أعلم من أين أتي الكل ؟
لأن ظهري كان نحو النور أما وجهي فكان نحو الأشياء المنيرة ،
لذلك كلن وجهي الذي كنت أنظر به الأشياء المنيرة غير مضيء !!
لقد قرأت من نفسي و بدن أستاذ ، كل كتب العلوم ، من بيان ومنطق و هندية
و موسيقى و حساب ، و قد فهمت كل هذه بلا صعوبة كبيرة ،

   كما تعلم أنت أيها الرب إلهي ،
لأن كل ما كـــــان لدي مـن مواهـــب الذكــــاء ،
و ســـرعة الفهم ،كـــــــــان منــــــك يا إلهــي ،
و مع ذلك فإننــي لم أقــدم مواهبي قريــاناً لك ،
لذلك لم تجعلنـي أستخدمها لفـــــــــائـــــدتي ،
بــــل بالأحـــــــــــــــــــــــرى لهـــــــــــــــلاكي .

    عندما مضيت لأحصل علي نصيب وافر من هذه العلوم لأخبئه في ذاكرتي ،
دون أن أحفظ طاقتي لك ،
بل زغت عنك إلي كورة بعيدة لأتلف طاقتي في الفسق ،
دون أن أستفيد من القوي الحسنة التي لم أستخدمها في الأعمال الحسنة .

إنني لم أشعر أن تلك العلوم صعبة ، حتى إنه لا يمكن للمُجد في الدروس أن يتحصل عليها إلا بمشقة ، إلا بعد أن حاولت أن أفسرها لذلك الإنسان الذي عندما برع فيهـــــا تركني ولم يقبل في الاستمرار معي لسيري البطيء .
-31-
ما الذي دعاني :
أن أتخيلك يا إلهــــي جسماً عظيمــــاً مضيئـــــــــاً ،
و أن أتخيل نفســــي جـــزءاً مــن ذلك الجســـــم ؟
إنــــــــــــه ضـــــلالي الكبير ، لأنك لم تكن هكذا !!

...إنني لا أستحي أن أترف لك يا إلهــــي بمراحمك نحـوي ،
و أن أدعوك أنا الــــذي منت أعوي مقابلك و أجدف عليــــك .

مـــاذا استفدت من ذكائي الخـارق في هذه العـلوم ؟
و ماذا استفدت من كل تلك المجلدات المعقدة جداً ،
التي فســــــــــرتها بـــــدون مســــاعدة أحـــــــــد ؟

لقد أدركت الآن إنني كنت ضالاً عن تعاليــم التقـــوى ،
و انتهكت بخزي حرمــــــــــــــــــــة الأشياء المقدسة .
إن صغارك الذين كانوا أقل ذكاء مني لم يضلوا بعيـــداً عنـــــك ،
بل كانــوا يطيرون بأمان في صحـــن كنيسـتك بأجنحة المحبة ،
          و يتغـــــــــــــــــــــــــــذون بطعـــام الإيمــان السليم .
أيها الرب إلهنــا دعنا نستظل تحت ظل جناحيـــك ،
أحفظنا و ضمنا لأنك تضمنا جميعاً إليك إذا تواضعنا ،
أيضـــــاً تضمنـا إلي أن تشــــــــيب شــــــــــعورنا .
إنه حينمـــــا تـكـــون أنـــت ثباتنا فعندئذ يكون هنــــاك الثبــــــــات ،
و لكن عندما يكـــون الثبات ثباتنا فعندئذ يكون القلق و الاضــطراب .

لا صلاح لنا إلا منك ، فـــــــــإن أعرضنا عنـــك فإننا ارتد عن الصلاح .
دعنــــــــــا الآن نعـــود إليــــك يـا رب لئــلا نضـــــل .
لأن فيــــــــــك يــــدوم صلاحنــــــــــا بــــلا انحـلال .
و إذا كنت أنت هو صلاحنـــا فلا نخشى الفــــاقة .
دعنا نرجع إليك لئلا لا نجد مكـــــاناً نرجــع إليــه .

لقـــــــــــــــــد ســقطنا مـــن صـــــلاحك ،
و في خــــلال غربتنـــــا عــــــلي الأرض ،
حفظت لنــــــا مسكننا الذي هو أبديتـك .


 الرجوع الى كتاب اعترافات القديس اغسطينوس
Share this article :
 
designed by: isaac